إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" ، "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" ، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" .
أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة فى النار .
موضوع البحث : عن حكم نظر المرأة إلى وجه الرجل الأجنبى
أما إن كان بشهوة فحرام بالإتفاق ، وأما إن كان بغير شهوة ولا مخافة فتنة ففى حكم ذلك ثلاثة أقوال لأهل العلم:
القول الأول: التحريم.
القول الثانى: الجواز.
القول الثالث: التحريم خاص بأمهات المؤمنين والجواز لبقية النساء.
القول الأول: أنه يحرم على المرأة نظر الرجل كما يحرم علىالرجل نظر المرأة؛ وهو مذهب الشافعية في الصحيح عندهم, والحنابلة في رواية ثالثة, ورأى عند المالكية.
قال إسحاق بن هانئ النيسابورى: ( سألتُ أبا عبد الله عن حديث نبهان عن أمِّ سلمة -وساق الحديث- ثمَّ قال : هذا لا ينبغي للمرأة أن تنظر إلى الرجل كما أنَّ الرجل لاينبغي له أن ينظر إلى المرأة ؟ قال - أي الإمام أحمد – نعم). وقال النووى:ففى جوازه وجهان لأصحابنا أصحهما تحريمه.
وهذا القول هو الذى عليه أكثر الصحابة وجمهور العلماء كما قال الإمام النووى:"الصحيح الذي عليه جمهور العلماء وأكثر الصحابة أنه يحرم على المرأة النظر إلى الأجنبى كمايحرم عليه النظر إليها". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:"وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الأجانب من الرجال بشهوة ولا بغير شهوة أصلاً". وقال ابن كثير: "ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة النظر إلىالرجال الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلاً".
واستدلوا بما يلى:
1. قول الله تعالى: "وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ .. الآية" وظاهر الآية أن المنع يشمل النظر بشهوة أو بغير شهوة، والأصل فى النصوص العامة أن تبقى على عمومها، فلا تخصَّصُ إلا بدليل شرعى، إما نصٌّ، أو إجماعٌ، أو قياس صحيح، ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة بالنسبة لعموم الآية.
وسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فقال:"لاَ تُتْبِعْ النَّظَرَ النَّظَرَ فَإِنَّ الأُولَى لَكَ وَلَيْسَتْ لَكَ الأَخِيرَةُ"رواه أحمد، وصححه الألبانى، والنساء والرجال فى أحكام الشرع سواء ما لم يأتِالتخصيص.
والآية والحديث صريحان فى المنع من النظر إلا لضرورة أو نظرة الفجأة، وهذا ليس خاص بالرجال.
2. عن نبهان مولى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْأُمِّ سَلَمَةَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَوَمَيْمُونَةَ، فَأَقْبَلَابْنُأُمِّ مَكْتُومٍحَتَّىدَخَلَ عَلَيْهِ. وَذَلِكَبَعْدَ أَنْ أُمِرَ بِالْحِجَابِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:احْتَجِبَا مِنْهُ. فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِأَلَيْسَأَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا وَلَا يَعْرِفُنَا ؟ فَقَالَ: أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا؛ أَلَسْتُمَاتُبْصِرَانِهِ ؟. رواه أحمد وأبو داود والترمذى والنسائى وابن حبان.
قال الإمام الذهبى: (نبهان عن مولاته أم سلمة, وعنه الزهرى, ومحمد بن عبد الرحمن, ثقة.
قال النووى:وهذا الحديث حديثٌ حسن رواه أبو داود والترمذى وغيرهما، قال الترمذى: هو حديث حسن ولا يلتفت إلى قدح من قدح فيه بغير حجة معتمدة.أ.هـ .
قال ابن حجر فى الفتح فى موضع:وهو حديث مختلف فى صحته.
وقال فى موضع آخر:وهو حديث أخرجه أصحاب السنن من رواية الزهرى عن نبهان مولى أم سلمة عنها وإسناده قوى؛ وأكثر ما عُلل به انفراد الزهرى بالرواية عن نبهان وليست بعلة قادحة، فإن من يعرفه الزهرى ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحه أحد لا ترد روايته.
وقال فى تلخيص الحبير: وليس في إسناده سوى نبهان مولى أم سلمة شيخ الزهري، وقد وُثق.
مع العلم بأن الإمام ابن حجر يرجح جواز النظر.
وقال العينى: وهو حديث صحَّحه الأئمة بإسناد قوى.
ومِمَّن صحَّحه : التركمانى في الجوهر النقى, والشوكانى في نيل الأوطار.
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السعد: إسناده صالح.
· وقد ثبت عن عائشة رضى الله عنها: أنها احتجبت من أعمى فقيل لها إنه لا ينظر إليكِ قالت: لكنى أنظر إليه. رواه ابن سعد فى الطبقات, وصحَّحه ابن عبد البر, وقد أخرجه الإمام مالك في إحدى موطآته كما عزاه الحافظ إليه فى التلخيص الحبير.
3. أن النساء أحد نوعى الآدميين فحرم عليهن النظر إلى النوع الآخر قياساً على الرجال ويحققه أن المعنى المحرم للنظر هو خوف الفتنة وهذا فى المرأة أبلغ فإنها أشد شهوة وأقل عقلا فتسارعإليها الفتنة أكثر من الرجل.
القول الثاني : أنه يجوز النظر بغير شهوة فيما عدا ما بين سرته وركبته وأما بشهوة فحرام وبه قال جمهور الحنفية ورواية عن الشافعى وأحمد. ولكنهم جعلوا جواز النظر إلى الرجال مشروط بما لم يكن بشهوة مع أمن الفتنة.
واستدلوا بمايلي :
1. عن عائشة رضى الله عنها قالت : كان الحبش يلعبون بحرابهم فسترنى رسول الله صلى الله عليه وسلموأنا أنظر فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن تسمع اللهو". متفق عليه.
ويُجاب عنه:
· ثبت فى بعض طرق الحديث أن الذين كانوا يلعبون بالحراب إنما هم صبيان وليسوا رجالاً،فعن عائشة :كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم جَالِسـاً فَسَمِعْنَا لَغَطـاً وَصَوْتَ صِبْيَانٍ، فَقَـامَ رَسُـولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَإِذَا حَبَشِيَّةٌ تَزْفِنُ وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا، فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ تعالى فَانْظُرِى ... الحديث". رواه الترمذى وغيره وصححه الألبانى فى غير ما موضع. فليُتدبَّر.
والصَّبِيُّ: الصغير دون الغلام،وقيل الصَّبِيَّ: من حين يولد إلى أن يشب، انظر المعجمالوسيط.
· قال النووى: وفيه جوازنظر النساء إلى لعب الرجال من غير نظر إلى نفس البدن. وأما نظر المرأة إلى وجه الرجل الأجنبى فإن كان بشهوة فحرام بالاتفاق، وإن كان بغير شهوة ولا مخافة فتنة ففي جوازه وجهان لأصحابنا : أصحهما تحريمه.
· وقال رحمه الله: ليس فيه أنها نظرت إلى وجوههم وأبدانهم، وإنما نظرت لعبهم وحرابهم، ولا يلزم من ذلك تعمد النظر إلى البدن وإن وقع النظر بلا قصد صرفته في الحال. أ.هـ.
· ثم إنها واقعة عين لميُكر أنها تكررت.
2. حديث فاطمة بنت قيس المتفق عليه أنه صلى اللّه عليه وسلم أمرها أن تعتد فى بيت ابن أم مكتوموقال :"إنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده" .
ويُجاب عنه:
قال الإمام النووى: ومعنى هذا الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يزورون أم شريك ويكثرون التردد إليها لصلاحها، فرأى النبى صلى الله عليه وآله وسلم أن على فاطمة من الاعتداد عندها حرجاً من حيث إنه يلزمها التحفظ من نظرهم إليها ونظرها إليهم وانكشاف شيء منها، وفى التحفظ من هذا مع كثرة دخولهم وترددهم مشقة ظاهرة، فأمرها بالاعتداد عند ابن أم مكتوم لأنه لا يبصرها ولا يتردد إلى بيته من يتردد إلى بيت أم شريك.
· ثم قال رحمه الله: وأما حديث فاطمةبنت قيس مع ابن أم مكتوم فليس فيه إذن لها في النظر إليه بل فيه أنها تأمنعنده من نظر غيرها وهي مأمورة بغض بصرها فيمكنها إِلاحتراز عن النظر بلامشقة بخلاف مكثها في بيت أم شريك.
· وقال الإمام الشوكانى: إنه يمكن ذلك مع غض البصر منها ولا ملازمة بين الإجتماع فى البيت والنظر ".
3. الحديث الصحيح فى مضيّ رسول اللّه صلى اللّه عليهوآله وسلم إلى النساء فى يوم العيد عند الخطبة فذكرهن ومعه بلال فأمرهن بالصدقة. أخرجه الشيخان.
ويُجاب عنه:
· أن ذلك لا يستلزم النظر منهن لإمكانسماع الموعظة ودفع الصدقة مع غض البصر كما قال الإمام الشوكانى.
o ومن أقوالهم: قول الإمام ابن حجر رحمه الله: ويقوى الجواز استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال، ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب لئلا يراهم النساء، فدل على تغاير الحكم بين الطائفتين، وبهذا احتج الغزالىعلى الجواز فقال: لسنا نقول إن وجه الرجل في حقها عورة كوجه المرأة في حقه بل هو كوجه الأمرد في حق الرجل فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط وإن لم تكن فتنة فلا، إذ لم تزل الرجال على ممر الزمان مكشوفى الوجوه والنساء يخرجن منتقبات، فلو استووا لأمر الرجال بالتنقب أو منعن من الخروج. أ.هـ.
· ويُجاب عن كلام ابن حجر والغزالى : أنه ليس ما جاز كشفه جاز النظر إليه. فمن العلماء من قال بجواز كشف وجه المرأة، فهل يستلزم القول بجواز الكشف جواز النظر؟؟ فلا يستلـزم من كشف الرجال لوجههم وخـروج المرأة إلى المسجد والسوقجواز النظر إليهم، فإنها مأمورة بغض بصرها كمـا بيَّن الله وأمر، وإن وقع نظرها علىالرجال دون قصد منهـا، أمكنهـا أن تغض بصرها، وذلك بأن ترخى طرفها، فإن الله قد للذريعة قالالإمام الشاطبي رحمـه الله تعالى: "والشريعة