بقلم : جابر عصفور
تكونت الهوية الثقافية المصرية علي نحو متعاقب, زمنيا, يبدأ من أقدم العصور, حيث الحضارة الفرعونية التي هي الأصل الذي لم تنتقص من قدرته علي البقاء, الحقبة اليونانية, ثم الرومانية, إلي أن دخلت مصر المسيحية التي كانت بمثابة المكون الرئيسي الثاني الذي ظل فاعلا إلي أن دخل الإسلام إلي مصر, وبدأت الحقبة العربية الإسلامية التي أكملت زوايا مثلث الأصول الثابتة للهوية الثقافية المصرية بخصوصيتها التي لاتزال قائمة إلي اليوم.
وهي أصول لم تتوقف, يوما, عن التفاعل مع غيرها من الثقافات القديمة والوسيطة والحديثة.. أعني ذلك التفاعل الذي لم يتوقف في أي حقبة زمنية, وظل قائما تفرضه عبقرية المكان المصري بموقعه الفريد الذي يتوسط أهم قارات العالم, في مراحله التاريخية المختلفة التي تباينت فيها العلاقة بين ثوابت الهوية ومتغيراتها, وذلك علي نحو يبرر الحديث عن مراحل متعاقبة متغايرة الخواص, تتباين سلبا أو إيجابا, حسب عمليات التعاقب التي تتحرك بالتاريخ وفي التاريخ, ولذلك لا يمكن الحديث عن هوية ثقافية ثابتة, لا تقبل التغير أو ترفضه, فالهوية الثقافية المصرية, شأن غيرها من الهويات, ليست كيانا مصمتا, ثابتا, متعاليا علي شروط الزمان والمكان, بعيدا عن حركة البشر المتغيرة التي تتبادل والهوية صفات التغير والتحول والتبدل.
ويسمح لنا هذا الفهم بقدر من التعميم, يدفعنا إلي القول بأن العناصر الثابتة للهوية الثقافية, بل كل هوية أيا كانت, تظل العلاقة بين عناصرها الرئيسية الثابتة كالعلاقة بين هذه العناصر الثابتة, مجتمعة, وغيرها من العناصر المتغيرة, محكومة بالشروط التاريخية التي تتولد فيها وبها مظاهر التبلد والتحول والتغير.
وإذا كانت العلاقة بين ثوابت الهوية يمكن أن تقوم علي التراكم الناتج عن التعاقب, كما في الهوية الثقافية المصرية, فإن هذا التراكم لا يعني الإزاحة, ولا يقترن بها إلا في اللحظات التاريخية التي تتسرب فيها صفات القمع الخارجي إلي داخل العلاقة بين الثوابت, وذلك بما يؤدي بأحدث الثوابت إلي أن يفرض نفسه علي غيره, أو يقوم بتهميشه, أو حتي محاولة إزاحته.
وقد حدث ذلك مع العنصر المسيحي الذي طارد العنصر الفرعوني بدعوي وثنيته, وسعي إلي نفيه من دائرة وجوده, ولكن الأصل الفرعوني ظل قائما, متواصلا, باقيا في تجلياته ومظاهره المادية( المعابد, المسلات, المقابر, التماثيل.. إلخ) جنبا إلي جنب تجلياته ومظاهره المعنوية التي لم يخل منها الموروث الشعبي المصري عبر تاريخه الطويل.
ويمكن أن تقول الأمر نفسه علي انقسام الأصل العربي الإسلامي, حيث يمكن أن ينقسم هذا الأصل علي نفسه, فتطارد الصفة الدينية فيه الصفة القومية, نتيجة عوامل قابلة للتحديد والتحليل, بل يمكن أن يؤدي تضخم الصفة الدينية إلي نوع من تهديد ما يخالفها, وما ينذر بنوع من الخطر الذي تداركته ثورة1919, مثلا, برفع شعار الدين لله والوطن للجميع. وهو شعار كان يحد من غلواء الديني وإذابته في مدي الحضور الجديد لدلالة الدولة المدنية والمجتمع المدني, فضلا عن الدلالة الملازمة لحقوق المواطنة القائمة علي حق الاختلاف واحترامه.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن تشهد حقبة ثورة1919 التأسيس الحقيقي لدلالات الهوية المصرية الوطنية والثقافية بوجه عام, ففيها اتحد الهلال والصليب, واجتمع عنصرا الأمة علي مبدأ تحريرها من الاستعمار, والتطلع إلي أفق تقدمها الواعد, وفي سياق هذه الحقبة, حدثت الكشوف المؤثرة التي أزاحت تراب القرون عن آثار توت عنخ أمون, الذي اكتشفت مقبرته سنة1922 في تتابع الاكتشافات التي أحيت الصلة بين مصر الجديدة الناهضة مع ثورة1919 ومصر الفرعونية التي أخذ الأدباء يستلهمون منها ما أطلق عليه محمد حسين هيكل مصطلح الأدب القومي وفي وهج ثورة1919 وضع محمود مختار النموذج الأول لتمثاله نهضة مصر وعرض النموذج في صالون الفنانين في باريس سنة1920, واكتمل التمثال, وأزيح عنه الستار سنة1928.
وقبل ذلك بسنوات قليلة, صدر دستور1923, الذي أكد حقوق المواطنة وأسس الدولة المدنية, وكان ذلك في سياق ازدهر فيه تجديد الفكر الديني علي يدي رجال من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده الذي فتح أبواب إباحة الفنون علي أقصي مدي باسم الإسلام دين العلم والمدنية, الذي أصبح مؤازرا لتحديث المجتمع وتقبل قيم الحداثة الفكرية والإبداعية.
وهتف سيد درويش باسم المصريين جميعا قوم يا مصري, مصر دايما بتناديك بعد أن أعلن بفخره حضورا وطنيا صاعدا وهوية ممتلئة بحضورها في عبارة أنا المصري.. وكانت النتيجة لحظة مضيئة, ساطعة الضوء, في تاريخ أمة وفي اكتمال معني الهوية الثقافية الحية التي تآلفت فيها أصول ثلاثة: الأصل الفرعوني والأصل المسيحي والأصل العربي ـ الإسلامي, وذلك دون تنافر, بل في تناغم أثري حضورها المشترك في التاريخ وبالتاريخ.
وفي الوقت نفسه, انفتحت التركيبة التي تتكون من هذه الأصول الثابتة مع متغيرات العصر التي جاءت بمبادئ الثورة الفرنسية( الحرية, والإخاء, والمساواة) وقيم الدولة المدنية وميراثها الأوروبي الذي أكد حتمية الدستور والقانون والديمقراطية والمواطنة وحق الاختلاف.
وكان التفاعل الخلاق بين الأصول الثابتة الأصلية والعناصر الثابتة المتغيرة, في مدي ممارسة رغبة التحرر بكل أوجهه في أمة صاعدة, لحظة نادرة من الصعود الذي كان علامة علي هوية مفتوحة, متمسكة بجذورها التي تضرب عميقا في التاريخ, لكن دون أن يتناقض ذلك مع الانفتاح علي كل رياح التحديث والحداثة الآتية من كل اتجاه في العالم المتقدم.
ويبدو أن علينا أن نستعيد هذه اللحظة ونعرف سرها الذي ينطوي علي ما يجعل الهوية الثقافية المصرية صاعدة, منفتحة علي غيرها وعلي مكوناتها الداخلية, في لحظات القوة, أو العكس, حين تفقد الهوية الثقافية المصرية لهب الحياة المتجددة في داخلها, وتنكفئ علي حضور سلبي, متشظ, متعادي الأطراف والعناصر والأصول, فتدخل هذه الهوية فترات الانحدار التي تجعلها تتحسر علي ماضيها, كما يحدث في هذه الأيام الصعبة